الفتح الإسلامي لمصر كان تحريرا لها قبل 14 قرنًا كانت معارك الفتح الإسلامي لمصر لا تزال قائمة.
وفي فتح مصر هناك الكثير من الأمور التي تدهش؛ فمثلًا أنجزت الفتوحات الإسلامية فتح الشام والعراق ودول الخليج العربي وبلاد فارس في عام واحد هو عام 15هـ.
بينما استغرق فتح مصر خمس سنوات كاملة من عام 18 إلى عام 22هـ؛ لأن الدولة الرومانية البيزنطية اعتبرت أن سقوط مصر مسألة حياة أو موت بالنسبة لها.
وبعبارة هرقل "إذا سقطت الإسكندرية ضاع ملك الروم"؛ وذلك لأن الروم لم تكن لهم حصون ولا كنائس مثل حصون الإسكندرية وكنائسها.
هل من المشروع إسلاميًّا أن نتحدث عن الوطن؟..
والإجابة أن الإسلام يتميز عن الشرائع الأخرى بأنه الدين الوحيد الذي تستحيل إقامته إقامة كاملة إلا في وطن؛ ففي النصرانية يستطيع الراهب أن يقيم نصرانيته في شعب من الشعاب أو على قمة جبل فينعزل كفرد عن العالم.
بل إن إقامة النصرانية في حقيقته يقتضي منه أن ينعزل عن العالم ويدير ظهره للدنيا. أما الإسلام فيتميز باستحالة إقامته كاملًا إلا في وطن قوي وفي مجتمع وفي نظام وفي أمة.
ولهذا اصطلح المسلمون على أن الإسلام دين جماعة؛ لأنه لم يقف عند التكاليف الفردية التي يستطيع الإنسان أن يقيمها في خاصة نفسه.
وإنما كانت هناك التكاليف الاجتماعية التي سماها العلماء فروض الكفاية.. الخطاب فيها موجَّه للأمة والتكليف فيها على الأمة وتستحيل إقامتها إلا في جماعة وفي أمة؛ فالجهاد لا يقام إلا في أمة، والزكاة لا تقام إلا في أمة وجماعة ومن خلال مؤسسات.
والحج هو فريضة فردية لكنه يُؤدى في جماعة، والتكاليف الفردية عندما تؤدى في جماعة يكون ثوابها أكبر كالصلاة... إلخ.
ولهذا كان مجتمع رسول الله وهو مكة رغم أنه كان على الشرك إلا إنه كان عزيزًا على رسول الله، وكان يشتاق إليه وهو في المدينة؛ فحب الوطن هو الذي يجعل الإنسان يجاهد من أجل أن يكون هذا الوطن إسلاميًّا، ويبذل في سبيل ذلك نفسه وماله.
البيت العتيق أي الحر الذي لم يخضع لجبار
عندما ظهر الإسلام عام 610م كانت هناك قوتان عظيمتان تقتسمان العالم وتمتلكان الدنيا.
وهما الفرس والروم، وقد اقتسمت هاتان القوتان منطقة الشرق ولم ينج إلا الحجاز ومكة والبيت العتيق..
وهذا هو سر تسمية البيت الحرام بالبيت العتيق؛ فالعتيق ليس هو القديم ولكن العتيق الذي لم يخضع لجبار، والعتيق من العتق وهو الحرية..
وهذه حكمة إلهية.. وكان ذلك هو مراد عبد المطلب حينما قال لأبرهة: أما الإبل فإنها لي، وأما البيت فله رب يحميه.
وقد كان عبد المطلب على يقينٍ من أن هذا البيت لا يمكن أن يخضع لأحد؛ لأنه عتيق أي حر.
وهكذا نجا البيت الحرام في غزوة الفيل التي كانت حلفًا بين الدولة الرومانية وبين الحبشة النصرانية لإزالة بقايا المناطق التي ظلت مستقلة في الشرق.
فالفرس كانوا يحتلون العراق والخليج، وكانت المدائن عاصمتهم التي بها إيوان كسرى في أرض العراق.
وكان الروم يحتلون الشام ومصر وشمال إفريقيا.
وعندما ظهر الإسلام لاحظت أن السياسة الخارجية للدولة الإسلامية -حتى قبل الفتح الإسلامي لمصر- نظرت إلى منطقة الشرق نظرة تحريرية؛ ففي عام 7هـ أي بعد صلح الحديبية بعام والذي تم فيه تحييد قوى الشرك، بدأت الرسل تصل برسائل رسول الله إلى الملوك والرؤساء وعظماء القبائل والأقاليم.
وكما أرسل رسول الله برسالة إلى كسرى، فقد أرسل الرسل أيضًا برسائل إلى الولاة الذين كانوا خاضعين لحكم كسرى.
وهكذا، فأحد الملامح الحضارية للفتح الإسلامي كان يعتبر أن هذه المستعمرات ليست شأنًا كسرويًّا حتى يخاطب فيها كسرى.
وإنما المخاطبون فيها هم أهلها، ونفس الشيء حدث مع مصر، فقد ذهب دحية الكلبي إلى هرقل برسالة رسول الله، وذهب حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس عظيم القبط الذي كان مصريًّا يعيش في ممفيس ولم يكن رومانيًّا.
وهكذا جاءت رسالة رسول الله إلى مصري وليس إلى روماني بيزنطي..
فقد كانت السياسة الخارجية للدولة الإسلامية تحرير مثل تلك البلاد من القوى المستعمرة؛ ولذلك فلو أننا تتبعنا الفتوحات الإسلامية فلن نجد معركة واحدة خاضها جيش الفتح الإسلامي ضد أهل البلاد المفتوحة.
وإنما كانت جميعها مع الجيش الفارسي المستعمر أو الجيش الروماني الغازي.
وهكذا كانت الفتوحات الإسلامية فتوحات تحرير لإزالة سيطرة القوى العظمى على منطقة الشرق، وقد اشتبكت بعض القرى المصرية مع الجيش الإسلامي الفاتح، ولكنها عوملت غير معاملة الجيش الروماني، فأطلق سراح من أسر منهم، وعومل أهل القرى معاملة طيبة.
عمر بن الخطاب يأذن بفتح مصر
في عام 18هـ ذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من المدينة إلى الشام لتقسيم مواريث الموتى في طاعون عمواس الذي مات فيه قائد الجيش أبو عبيدة بن الجراح ونائبه معاذ بن جبل، فتولى قيادة الجيش عمرو بن العاص الذي تحدث مع عمر بن الخطاب في شأن فتح مصر.
فوافق عمر وجهز له أربعة آلاف من المقاتلين، في الوقت الذي كان بمصر مائة وعشرون ألف جنديًّا رومانيًّا، مما يشكل تفاوتًا خطيرًا في موازين القوى؛ مما جعل عمر بن الخطاب يقول لعمرو بن العاص: إنني سأعود إلى المدينة وأشاور صحابة رسول الله، فإذا جاءك الكتاب يأمرك بالرجوع وأنت لم تدخل مصر فارجع، أما إذا كنت دخلت مصر فتوكل على الله.
فعمر كان يدرك خطورة المعركة وقوة العدو، فالرومان مشهورون بحصونهم حيث جعلوا مصر كلها حصونًا.. وعندما عاد عمر إلى المدينة نصحه الصحابة بأن يعود الجيش.. لكن عمرو لم يفتح الرسالة إلا بعد أن تجاوز رفح فدخل العريش وصلى صلاة العيد في العاشر من ذي الحجة عام 18هـ.
وكان أول معركة خاضها الجيش المسلم الفاتح في مصر هي معركة "الفرما" في شمال سيناء، وفيها دام القتال والحصار شهرًا كاملًا، رغم أن بطرك القبط بنيامين أصدر تعليماته منذ اللحظة الأولى بأن يقف الشعب المصري القبطي مع الجيش الفاتح؛ ولذلك كان الأهالي في "الفرما" يمدون الجيش الفاتح بالطعام والشراب والعلف.
أما المعركة الثانية فكانت في "بلبيس" ودامت هي الأخرى شهرًا كاملًا.. ثم جاءت المعركة الثالثة وكانت في "حصن بابليون" ودام القتال والحصار سبعة أشهر، وفي أثناء هذا الحصار أدرك عمرو بن العاص أن موازين القوى غير متكافئة وأن الجيش المسلم قليل جدًّا في مواجهة الرومان، إضافةً إلى أن الحدود الشمالية لمصر حيث البحر المتوسط مفتوحة يأتي منها المدد الذي لا ينقطع للرومان.
فأرسل عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يطلب مددًا فوق الأربعة آلاف جندي الذين معه، فأرسل له أربعة آلاف آخرين ومعهم أربعة من صحابة رسول الله فيهم الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود ومسلمة بن مخلد، وقال له: كل واحد منهم بألف، فيكون معك اثنا عشر ألفًا.
المصريون رحبوا بالفتح ليتحرروا من قهر الرومان
وبعد فتح حصن بابليون أخذ الجيش المسلم يفتح كل المعاقل والحصون حتى وصل إلى الإسكندرية التي كانت العاصمة الاستعمارية لمصر منذ بناها الإسكندر الأكبر.. أما العاصمة الوطنية التي كان ولاء الإنسان المصري لها فقد كانت طيبة وممفيس..
حتى الهكسوس حينما احتلوا مصر جعلوا عاصمتهم في محافظة الشرقية. وهكذا لم تكن الإسكندرية عاصمة وطنية لمصر، وإنما كانت عاصمة للمستعمر، وهي التي قهرت كل شيء في مصر.
وكانت النصرانية في مصر مضطهدة منذ دخلت مصر في القرن الأول الميلادي.
وظلت كعقيدة هاربة ومطاردة حتى جاء الإسلام. وهذا كله يؤكد أنه لم تكن هناك دولة مسيحية مصرية ولم يحكم مصر قبطي مصري عبر تاريخها الطويل، وإنما كان الذين يحكمونها هم الرومان المستعمرون، وكان القانون الذي يطبق هو القانون الروماني..
وهكذا فإن الدولة الإسلامية التي أقامها عمرو بن العاص لم تحل محل دولة نصرانية، وإنما حلت محل قانون جوستنيان الروماني الذي قتل من القبط في ليلة واحدة في الإسكندرية مائتي ألف، بل إن لغة مصر أيضًا قهرت حتى كتبت بالحروف اليونانية، وبالتالي كانت الثقافة المصرية مقهورة.
وهذا هو الذي جعل مصر فراغًا يرحب بالفتح الإسلامي، وجعلها تدخل في الإسلام واللغة العربية بكل كيانها.. فلم تحدث فيها شعوبية ولا قلاقل كما حدث في بعض البلاد الأخرى.
إن الفرس كان عندهم حضارةٌ وشيء يُدافعون عنه ضد الفتح الإسلامي، أما المصريون فقد رحبوا بالجيش الفاتح منذ اللحظة الأولى؛ لأنهم كانوا في حالة من القهر الحضاري ولم يكن لديهم ما يدافعون عنه.
إن معنى كلمة "حضارة" أن هناك دولة، فإذا لم تكن هناك دولة مصرية في ذلك الوقت، فإن الكلام عن حضارة قبطية "وهمٌ" من الناحية العلمية، وإنما يمكن أن تدرس الثقافة المصرية في ذلك التاريخ، أما العمران والسياسة والاقتصاد والاجتماع والدولة والنظام فكل ذلك كان رومانيًّا واستعماريًّا.
معركة الإسكندرية أم معارك الفتح
نعود إلى حصار الجيش الإسلامي للإسكندرية والذي استمر أربعة عشر شهرًا.. ولما طال الانتظار بعث عمر بن الخطاب برسالة إلى عمرو بن العاص يقول فيها:
"أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر.. إنما تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلنتك أن الرجل منهم بألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكونوا غيَّرهم ما غيَّر غيرهم.
فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس، وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُرِ الناس جميعًا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة؛ فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله يسألونه النصر على عدوهم".
فلما وصل عمرو بن العاص الكتاب، دعا الناس وقرأ عليهم كتاب عمر، وفعلوا مثلما أمرهم، ففتح الله عليهم.
الكاتب: د. علي عبد الباقي
المصدر: موقع لواء الشريعة